لقاء حادي بادي مع أمينة الهاشمي العلوي، دار ينبع الكتاب ، المغرب
كيف جاءت فكرة إنشاء دار ينبع الكتاب؟
في أوائل الثمانينات، كنت أحضر لاجتياز اختبارات ممارسة مهنة المحاماة، إذ بالصدفة تعرفت على مهنة كتبية وعلم المكتبات، أُغرمتُ بهذه المهنة وقررت أن لا أمتهن غيرها. بعد هذا القرار ببضع سنوات أصبحت أمًا لثلاثة أطفال، ولاحظت أنه لا وجود لكتب أطفال ذات مرجع ثقافي مغربي خصوصا الحياة اليومية للمغاربة. بدلا من التذمر المستمر، خطرت ببالي أن أنشرها بنفسي. بدأت نشر الكتب الخاصة بالأطفال بعد أن أنشأت فرعًا بدار النشر الخاصة بزوجي التي تنشر كتب متنوعة للكبار، بعدها لاحظت أن كتب الأطفال وسط الكتب المختلفة جعلها تفقد أهميتها وقوتها.
أسست دار ينبع الكتاب في عام 2006 كدار مستقلة متخصصة بكتب الأطفال من 0 إلى 12 سنة. في الأول كان مقر الدار في مكتبة “ملتقى الفنون” مكتبتي الخاصة، فكان مزج بين دار النشر وبين مكتبة حيث كنا نقدم في المكتبة مجموعة من الورش الفنية للأطفال، لتقوية المرجع الثقافي المغربي من خلال المسرح، والموسيقى، والغناء، وتحبيب التراث… هذه الورش التي أصبحت جزءا من المكتبة احتضنتها دار ينبع الكتاب لتدوينها ونشرها في كتب لمشاركتها مع جميع الأطفال، من هذه الكتب “احك لي الزليج” و”احك لي آلة العود” و”احك لي اشقارة والموسيقى الأندلسية” و”ماما تحضر الكسكس” و”زرابي بلادي”.
بعدها “سلسلة مليكة وكريم” سلسلة تحكي يوميات الإخوة مليكة وكريم في جولة عبر المدن المغربية، زيادة على التاريخ، والتراث، و التقاليد، فالسلسلة تتطرق أيضا لمجموعة من القيم الإنسانية العالمية بطريقة مسلية تجذب الأطفال وتشوّقُهم للإنتقال من كتاب إلى آخر لاكتشاف مغامرات مليكة وكريم وماعزتهم.
ما هي مكانة كتاب الطفل بالمغرب؟ ماذا عن الكتاب العربي للطفل؟
كما قُلت سابقا، كان كتاب الطفل ذو المرجع الثقافي المغربي قليل جدًا، فكان يلجأ الطفل القارئ إلى كتب مستوردة من الغرب سواءً باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، وكتب من الشرق الأوسط باللغة العربية. معظم الكتب العربية كانت من متوسطة إلى منخفضة الجودة وذلك راجع إلى القدرة الشرائية التي لم تكن تسمح بإستيراد كتب ذات جودة عالية. الجودة المستوردة لم تكن كافية لجذب إنتباه الطفل للإطلاع على الكتب.
أما عن الكتاب العربي للطفل، فتوجد مجموعة كبيرة من دور النشر لكن ليست كل الكتب ذات جودة أو قيمة حيث أن دور النشر المتخصصة بالمجال عددها محدود.
لقد ظهرت في التسعينات مجموعة من دور النشر المتخصصة بأدب الطفل وكتاب ورسامين وكان أغلبهم نساء كانت لهن تجربة مماثلة بتجربتي، أمهات مثقفات مجتهدات يبحثن في مجال الطفل وينشرن ما هُنّ بحاجة له وعادة تجد الناشرة نفسها الكاتبة وهذا ما أدى إلى ظهور كتب جيدة في أواخر التسعينات.
ولا يمكنني التكلم عن كتاب عربي للطفل دون أن أتكلم على الدور الذي قامت به دولة الإمارات العربية المتحدة خلال فترة المعارض الدولية للكتاب بأبوظبي والشارقة، إذ فتحوا للناشرين فرصة التدريب والتكوين من أساتذة ومتخصصين في كتب الطفل من جامعة السوربون الفرنسية وجامعة نيويورك بأمريكا. كان نتيجة هذا التكوين العصري قفزة نوعية وبدأ متخصصون كتب الطفل من كتاب ورسامين وناشرين بالظهور. كذلك لا ننسى الجوائز التي حفزت الجميع في هذا المجال على الإجتهاد وإعطاء أفضل ما عندهم من جودة أفكار ورسم وإخراج فني ونشر. إذ لاحظنا أن معظم الناشرين أصبحوا يبحثون على رسامين عرب في حين كان العكس فيما سبق.

لديكم عدة تجارب من أجل إتاحة الكتب ذات الجودة العالية بأسعار في متناول الجميع. حديثينا عن هذه التجارب الرائدة؟
دائما يكون التساؤل في محيا الناشر، هل أنشر كتاب عالي الجودة يفرض وجوده في السوق العربية والعالمية أم أنشر كتاب حسب القدرة الشرائية.
كما يعلم الجميع للجودة ثمن، فالكاتب لكي يُنقح النص يحتاج إلى الوقت، بعدها يمر على لجنة قراءة التي تتكون من مختصين في العلم النفسي للطفل، والتربية والتعليم، بعدها مرحلة إختيار الرسام المناسب الذي يحتاج هو أيضا إلى الوقت لإنتاج رسومات تكمل النص ثم مخرج فني. فكل هذه الكفاءات تحتاج إلى الكثير من الوقت والكثير من المصاريف إلى أن نصل لمرحلة الطبع التي تحتاج إلى جودة في الورق والتغليف. هذا كله لنشر كتاب قادر على جذب انتباه الطفل.
كتاب بالجودة التي ذكرناها سابقا لا يقل ثمنه عن 10 دولارات، كناشر صغير لا يمكن أن نطبع أكثر من 2000 نسخة منه حيث أن هذه الكمية تأخد وقت طويل لنفاذها. بعد 30 عاما من المشاركة في معرض الدار البيضاء الدولي للكتاب، وعند سؤالي للصغار كم معكم من المال ؟ فكانت إجابة معظمهم هي عشرة دراهم (يعني دولار). للأسف يوجد بعض التجار بإسم ناشرين يقومون ببيع بضعة أوراق مجموعة بشكل كتاب إذ لا يشبه الكتاب إلاّ في الإسم الذي أطلق عليه. كانت هذه الصورة دائما تزور ذاكرتي وكان حلمي أن أنتج كتب أطفال بجودة عالية بثمن دولار واحد فقط.
منذ إنشاء الدار، كان همنا زيادة نشر كتب بجودة عالية وإيصالها إلى جميع الأطفال خصوصا من هم في المناطق المعزولة والهشة. نعمل بالشراكة مع جمعيات المجتمع المدني ومع مؤسسات وأيضا مع زبناء المكتبات الذين كان بإمكانهم المشاركة بإقتناء كتاب ووضعه بصندوق يوضع أمام صناديق مخصصة لحملة “لكل طفل كتاب ” التي استفاد منها أكثر من 120.000 طفل من مختلف جهات المملكة المغربية. كانت الكتب توزع بالمجان مصحوبة بورش تعليمية وفنية. رغم هذا فكانت تزورني دائما فكرة كتاب بثمن رمزي وذلك لإعطائه قيمة أكثر.
حُلْم طال سنوات، تحقق منذ سنة 2017 بإطلاق مبادرة “قافلة القراءة المتضامنة” انطلاقتها كانت بستة كتب بجودة عالية بثمن رمزي 10 دراهم (دولار واحد). هذا الحلم لم يكن له أن يتحقق لولا نشر 20.000 نسخة من كل كتاب ما مجموعه 220.000 نسخة، ودعم بنسبة 20% من قيمة المشروع من طرف وزارة الثقافة المغربية والشراء القبلي لمجموعة من الجمعيات والمؤسسات التي وثقت بالمشروع. بعد بداية المشروع، حالفني الحظ باللقاء مع مجموعة من المتخصصين في علم التدريس وعلوم الطفل وبمساعدتهم تم نشر مرفق إرشادي لكل كتاب من كتب قافلة القراءة المتضامنة توضع بالمجان رهن المعلمين والآباء للإشتغال على هذه الكتب.
ستة مواضيع باللغة العربية والفرنسية، و 12 مرفقا إرشاديا مع الورش جعل من “قافلة القراءة المتضامنة” برنامجا كاملا ومشمولا وغنيا يمكن للطفل تتبعه طيلة السنة الدراسية.

كان المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء لهذه السنة أكبر شاهدا على نجاح هذا المشروع، خلال عشرة أيام عرف الجناح إقبالا لا مثيل له، لم أره قط في مشوار الدار، إقبال من طرف الأطفال المتهافتة على الكتب، إقبال من طرف أساتذة وآباء يشكروننا على هذه الكتب التي تحترم عقل الطفل. هذه الكتب التي أصبحت تاجا فوق رأسي أفتخر به. لم يقتصر الإقبال على المغرب فقط، ففي الشرق الأوسط والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وكذلك في ساحل العاج والسنغال وغينيا حيث نوفر كتبنا باللغة الفرنسية… حيث نسوقها بثمن 3 دولارات.
ما هي نوعية الكتب التي تقوم دار ينبع الكتاب بنشرها؟ كيف تختارون الكتاب والرسامين؟
بصفتي مديرة دار ينبع الكتاب، فأنا أنشر بمسؤولية، لا يمكنني أن أقبل نشر أي نص، فأولا اختار النصوص ذات قيم والتي تساعد على تنمية خيال الطفل وتخلق لديه فضول الاكتشاف. في السنوات العشر الاولى، مسار ينبع الكتاب كان منحصرًا على كتب ذات مرجع ثقافي مغربي.
عندما أصبحت جدة، تحولت بالفطرة إلى مؤلفة تهتم بمعالجة مشاكل الطفل والأسرة وهنا انفتحت الدار أيضا على ذلك. أظن أننا في المسار الصحيح، لانه والحمد لله أول كتاب “علياء والقطط الثلاث” في هذا الاتجاه وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة إتصالات، وأصبح كتابا عالميا، إختاره عدة أطباء نفسين للأطفال للاشتغال به مع الأطفال، أيضا إختارته المكتبة الوطنية الفرنسية، والمكتبة الدولية للأطفال بميونيخ بألمانيا، وتمت ترجمته لمجموعة من اللغات ولا يزال الطلب عليه مستمرًا. كل كتبنا الآن تثبت جودتها بكل ما سبق ذكره.
غير إختياري للنصوص، فأنا أفضل الإشتغال مع الكاتب على الفكرة، على تطويرها، على تنقيحها وإخراج الثروة منها مع الاحتفاظ باللمسة التي تترك لدى الطفل فضول ومجال لطرح التساؤلات. لا أفضل إعطاء الطفل الطبق الجاهز. بعدها أشتغل على نموذج قبلي للقصة لبعثه إلى الرسام الذي نشتغل معا في دراسة شخصيات القصة، عند الإتفاق على النسخة الأولى تكون له الحرية في الإبداع.
من وجهة نظرك وتجربتك، ما الذي تحتاجه صناعة أدب الطفل في العالم العربي؟
من وجهة نظري، لا يوجد سر في صناعة أدب الطفل في العالم العربي، سوى التكوين أي تنمية القدرات في هذا المجال. ففي الماضي، كانت معظم الناشرات نساء يمتهن المهنة بحب وإرادة وكان للاجتهاد الحصة الأكبر في النجاح في هذا الميدان.
لكن الآن، خصوصا للذين يريدون احتراف مهنة النشر للأطفال ولكي يكون أدبا منقحا وجب على كل عنصر أن يكون لديه القدرات والمهارات المطلوبة. التكوين يجب أن يكون من سياسة الدول وتكون الوزارات المسؤولة عنه سواءً وزارة الثقافة أو وزارة التعليم أو الإثنتين معًا. وذلك ليصبح تكوين الكتاب والرسامين والمخرجين الفنيين والناشرين والناقدين المتخصصين في كتاب الطفل. ولا ننسى أيضا تدريب المسوقين لهذا الأدب، لأن بدون تسويق لا وجود لهذا الكتاب ولهذا الأدب.
ما تأثير أزمة الكورونا على ينبع الكتاب وما هي خطط الدار خلال الفترة القادمة؟
أولا، نتمنى من الله عز وجل أن يرفع عن العالم هذا الوباء! ثانيا، يجب أن نحافظ على التفاؤل دائما. لم نكن نتوقع هذه الأحداث، فقبل مدة قصيرة كنا بصدد التحضير للمعارض والكتب التي سنقدمها للجمهور، فخلال مرحلة الحجر الصحي توصلنا بثلاثة كتب جديدة كان من المفترض تقديمها في المهرجان القرائي للطفل بالشارقة ومعرض بولونيا وهم كتاب “هالة” لمؤمن حلمي ورسم ماتياس دوبيل وكتابين للطفولة المبكرة مترجمين عن اليابانية، لماذا تَرْجمة ؟ لأننا في المغرب ليس لدينا تخصص أو مؤلفين لكتابة نصوص للطفولة المبكرة ولأن مواضيع الكتابين من اليابان متناولة بطريقة فلسفية تسمح للطفل بالتفكير. وعلى الرغم من إلغاء معظم المعارض العالمية أو نقلها إلى العالم الافتراضي، لقد سعدنا باختيار كتاب هالة ضمن 4 كتب من العالم العربي على قائمة وايت ريفين لعام 2020 والتي تقوم بنشرها المكتبة العالمية للشباب بميونخ، ألمانيا لكتب الأطفال من أنحاء العالم التي تستحق الاهتمام لما تضمنها من قيم ومفاهيم إنسانية، وبسبب رسومها ولوحاتها المميزة، إلى جانب النص المميز بأسلوبه وتقنياته السردية والحكائية.
كما لم يمنعنا الوباء من استمرار التعاون مع جمعية أصدقاء المدارس لتوصيل الكتب إلى الاطفال المهمشين من خلال مشروع “مكتبة لكل أسرة” والتي هي عبارة عن صندوق يضم 22 كتابا بالإضافة إلى كتيبات أنشطة لشرائح عمرية مختلفة ويمكن للأفراد والمؤسسات بالتبرع لتوزيع أكبر قدر من هذه المكتبات الصغيرة على الأسر المحتاجة.
وأخيرا تم استغلال الوقت خلال الفترة الماضية للنظر إلى عدد من النقاط التي لم نشتغل عليها جيدًا من قبل مثل تطوير التجارة الإلكترونية والكتاب الإلكتروني، لذا كانت هذه الفترة مفيدة لإعادة النظر والتصحيح ووضع خطط للمستقبل. سوف نواصل عملنا في نشر كتب أطفال عربية عالمية وتقريبها من جميع الأطفال حتى لغير القادرين على الوصول إليها، لنجعل منهم مستقبل الغد، وسنعمل على تطوير الدار بصورة مستمرة.
اطلع على مراجعة حادي بادي لكتاب ماذا أرى من إصدار دار ينبع الكتاب.